ولهذا يقول: (ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق) فالذكر في المساجد معروف، والذكر في حلقات الذكر معروف، والذكر في الأسواق فيه حكمة، وهي: أن تكون من المفردين؛ لأنك تذكر وهم غافلون، فهذا مما ينبغي أن تغتنمه: أن تكون ذكراً بين قوم غافلين لاهين سادرين لاعبين، وتكون من العاقلين المستبصرين، ومن أولي الألباب، وهذه نعمة من الله عز وجل عليك، فاذكره حيث يذكرونه، وأحي ذكره حيث يهمله أكثر الناس.
ولهذا جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دخل سوقاً يصاح فيه ويباع فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة )، فهذا الذكر يغفل عنه كثير من الناس، وهو غنيمة باردة يستطيع الواحد منا أن يقولها، ويستطيع أن يزيد.
فأنت تذهب إلى السوق تشتري كما يشتري الخلق، وتقضي غرضك الدنيوي مثل غيرك، لكن فرق بين من يرجع من السوق بغرضه الدنيوي، ومعه هذا الأجر العظيم الهائل الذي لا تكاد العقول تتخيله، وبين من يرجع بنفس الغرض الدنيوي، وربما عاد مغضوباً عليه في دينه والعياذ بالله؛ لأنه نظر إلى حرام، أو تكلم بحرام، أو حلف يميناً كاذبة في البيع أو الشراء، أو فعل شيئاً مما يفعله الغافلون.
يقول: وفي حديث آخر: ( ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء في وسط شجر يابس ).
(قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود [ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة، وإن كان في السوق] ) فانظر كيف فهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون معنى ذكر الله، فليس الذكر وأنت جالس في المسجد فقط، وإنما يكون في المسجد وفي غير المسجد، فتذكر الله تعالى في بيتك، وفي مسجدك، وفي حياتك العامة، وفي كل حين.
وقال معاذ رضي الله تعالى عنه: [وإني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ]، فاعمر أوقاتك بالذكر، واجعل ذكراً قبل النوم، وذكراً عند الاستيقاظ من النوم، فتنام على ذكره، وتستيقظ على ذكره، وتقوى بنومك على ذكره، فتكون حياتك ذكراً لله، وأما الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فهؤلاء هم الملائكة، والملائكة خلق آخر، وقد خلقهم الله تعالى هكذا.
وأما نحن فلا بد أن ننام، ولا بد أن نأكل، ولابد أن نشرب، ولابد أن نتعب، ولا بد أن نمل، لكن المقصود أن يكون لسانك حاضراً، وقلبك حاضراً مرتبطاً بذكر الله.
يقول: ولو كنت في السوق، وإن حرك به شفته فهو أفضل، وإن لم يذكر إلا بقلبه فلا بأس، ولو أعلن الذكر بينهم فهو أفضل؛ كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يحيون التكبير في السوق؛ حتى يتنبه الغافلون فيكبروا.